صراعات القوى العالمية- نظرة جيوسياسية على مستقبل الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا

المؤلف: سلطان السعد القحطاني10.12.2025
صراعات القوى العالمية- نظرة جيوسياسية على مستقبل الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا

كان الزعيم الفرنسي البارز، شارل ديغول، يتمتع بمنظور فريد من نوعه حيال الشؤون الدولية وكيفية مجابهة التحديات التي تعترض طريقه. عندما كان يواجه موقفاً معقداً يستدعي التأمل والتبصّر، كان يستدعي مساعديه ويطلب منهم إحضار الخريطة، ثم ينظر إليها ملياً، ويتفحص حدود الدول، ويُقيّم أهميتها، ويستقرئ من خلالها الديناميكيات السياسية العالمية، مُدركاً أن الجغرافيا ليست مجرد تضاريس، بل هي جزء لا يتجزأ من السياسة ومحرك أساسي لها، ومن خلال فهمها، يمكن فهم الكثير.

وبمرور الوقت، أضحت الجغرافيا السياسية علماً بالغ الأهمية يتناوله بالدرس والتحليل الباحثون المتخصصون في العلاقات الدولية والأمن القومي، وذلك لما تحمله من دلالات ورسائل حول مستقبل العالم وكيفية التعاطي معه. بل إنها تفرض تحديات جمة تستوجب المواجهة، وتحالفات وطيدة لا بد من توطيدها وتعميقها. ولا شك أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والمطالبات الصينية المتزايدة بسيادتها على مناطق في بحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى العديد من المشاهد الأخرى المشابهة في القارة الأفريقية، كلها شواهد حية على عودة المنافسات الجيوسياسية إلى واجهة العلاقات الدولية وبقوة.

وانطلاقاً من هذا المنظور الديغولي، يمكننا فهم ثلاثة عناصر رئيسية لعدم الاستقرار التي تلوح في الأفق بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. إنها جولة خاطفة في عالم السياسة المعاصر، المليء بالصراعات والتنافسات المحتدمة بين القوى العظمى. وقد تجسد هذا جلياً في المأزق الروسي الراهن في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، وفي الحصار الصيني في أعالي البحار، فضلاً عن الاستياء الإثيوبي الدفين من كونها دولة كبيرة ذات ثقل سكاني واقتصادي، ولكنها محرومة من أي منفذ بحري أو موانئ.

وبإلقاء نظرة فاحصة على الخريطة، يمكننا إدراك الإصرار الروسي المستميت على ترسيخ موطئ قدم لها في سوريا، وهو تواجد وجودي لا يمكن التنازل عنه، مما يستدعي منها القتال ببسالة من أجل الحفاظ على هذا الموقع الاستراتيجي الذي ألفته منذ عقود. وبالنظر إلى خريطة أفريقيا، يتضح لنا مدى تعقيد الوضع الإثيوبي، حيث تبدو إثيوبيا كالفيل الضخم المحاصر من قبل أسراب النمل. وإذا توجهنا شرقاً، نرى الصين وقد ضاقت عليها سواحلها بفعل وجود حلفاء الغرب والكومنولث.

لقد كان الانهيار المدوّي للرئيس السوري بشار الأسد بمثابة حدث استراتيجي بالغ الأهمية في المنطقة، إذ أنه يمثل نهاية مشروع دامٍ سعى إلى تلطيخ المنطقة بظلاله القاتمة لأكثر من عقد من الزمان. كما أنه كان بمثابة صدى مكتوم لما جرى في أوكرانيا، والقلق الذي يساور حلف شمال الأطلسي (النيتو) من إمكانية نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تحقيق أهدافه من غزو أوكرانيا، الأمر الذي قد يجعل أوروبا مكشوفة وضعيفة في مواجهة الخطر القادم من الشرق.

وبناءً على ذلك، يمكن للكثيرين في المنطقة أن يتنفسوا الصعداء وهم يشاهدون تراجع النفوذ الروسي في سوريا، وهو ما قد يؤدي إلى انسحابها من منطقة البحر الأبيض المتوسط، وغيابها عن الساحة البحرية الأهم التي تربطها بالقارة الأوروبية. إن صوت هذه الهزيمة سوف يتردد صداه في بنغازي، التي تمثل مظلة حماية مهمة على البحر الأبيض المتوسط، حيث لروسيا حلفاء هناك، وكذلك في السودان، الذي يعد جزءاً من معركة السيطرة على البحار، حيث لروسيا أيضاً حلفاء هناك. إنها هزيمة تفوق قدرة التحمل بالنسبة لدولة عظمى تشعر بأنها محاصرة من قبل الغرب وحلفائه على طول حدودها.

تمتلك روسيا قاعدة بحرية رئيسية في طرطوس، سوريا، وهي قاعدتها البحرية الوحيدة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، مما يمنحها القدرة على نشر قواتها وتأمين مصالحها في المنطقة الحيوية. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر البحر الأبيض المتوسط معبراً استراتيجياً لصادرات النفط والغاز الروسي، خاصة نحو الأسواق الأوروبية. وتسعى روسيا جاهدة لتعزيز نفوذها في مشاريع الطاقة في دول مثل ليبيا ومصر.

ومن المعلوم أن منطقة البحر الأبيض المتوسط تشكل ساحة تنافس محمومة مع القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (النيتو)، وتسعى روسيا لتعزيز تحالفاتها مع دول المنطقة، مثل سوريا ومصر والجزائر، بهدف تحقيق توازن استراتيجي. ولا يمكننا أيضاً إغفال حقيقة أن البحر الأبيض المتوسط يربط بين البحر الأسود والمحيط الأطلسي عبر مضيق البوسفور وقناة السويس، مما يجعله ممراً حيوياً للتجارة الروسية مع قارات أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط.

وبالتالي، يمثل البحر الأبيض المتوسط نقطة استراتيجية حيوية لروسيا لتعزيز نفوذها العسكري، وتأمين مصالحها الاقتصادية، وتحقيق توازن القوى في مواجهة النفوذ الغربي المتزايد.

وبالنظر إلى تعقيدات الخريطة، نرى إثيوبيا، الدولة الأفريقية الكبيرة من حيث عدد السكان (حوالي 120 مليون نسمة) والمساحة، ومع ذلك، تواجه قوتها العسكرية والسياسية تحديات كبيرة، أبرزها قضية الوصول إلى البحر. فهي دولة حبيسة لا تملك أي حدود بحرية، وذلك بعد فقدانها منفذها البحري عقب استقلال إريتريا عام 1993، التي كانت في السابق جزءاً لا يتجزأ منها.

وتعتمد إثيوبيا حالياً على موانئ جيبوتي بشكل أساسي للوصول إلى البحر، حيث تمر أكثر من 95% من تجارتها الخارجية عبر ميناء جيبوتي الحيوي. وتسعى إثيوبيا جاهدة لتأمين منفذ بحري خاص بها، وقد أجرت مفاوضات مكثفة مع دول إريتريا والصومال وجيبوتي لاستئجار أو امتلاك جزء من موانئها.

ومن المستبعد أن تلجأ إثيوبيا إلى استخدام القوة العسكرية لتحقيق هدفها المتمثل في الحصول على منفذ بحري، ولكنها قد تمارس ضغوطاً سياسية واقتصادية لتحقيق هذا المسعى. فاعتماد إثيوبيا على ميناء جيبوتي لأكثر من 95% من تجارتها يجعلها في وضع اقتصادي غير مريح على الإطلاق. ومن ناحية أخرى، تتطلع إثيوبيا إلى التوسع الجيوسياسي، فهي تمتلك جيشاً كبيراً، وقد ترغب في استعادة نفوذها الإقليمي، خاصة بعد فقدانها للبحر عند استقلال إريتريا عام 1993.

وبين هذه الصورة وتلك الظلال، يبقى أن قارة آسيا هي العقدة الأكثر تعقيداً، وتكاد تكون بمثابة سؤال التاريخ بأسره، فبينما تقترب عناصر قوتها من الاكتمال، وتهدد النظام العالمي بشكله الحالي، فإن حلفاء الغرب في آسيا يفرضون عليها حصاراً محكماً، ويجعلونها تفكر ملياً قبل الإقدام على أي خطوة. ويلعب حلفاء بريطانيا والغرب دوراً محورياً في هذا التضييق والاحتواء للطموحات الصينية المتنامية.

بعض دول الكومنولث القريبة من آسيا، مثل أستراليا ونيوزيلندا، لديها خلافات مع الصين، ولكن طبيعة هذه الخلافات تختلف من دولة إلى أخرى. فقد فرضت الصين تعريفات جمركية باهظة على صادرات أستراليا، مثل الشعير والفحم، وذلك عقب مطالبة أستراليا بإجراء تحقيق دولي حول منشأ فيروس كورونا. وانتقدت أستراليا أيضاً سياسات الصين في هونغ كونغ ومنطقة شينجيانغ، مما أثار غضب بكين. والأهم من ذلك، أن أستراليا قد وقعت اتفاقية AUKUS مع الولايات المتحدة وبريطانيا لتطوير غواصات نووية، وهو ما اعتبرته الصين تهديداً مباشراً لنفوذها في المحيطين الهندي والهادئ.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن نيوزيلندا أقل تصادمية من أستراليا، ولكنها أعربت عن قلقها بشأن قضايا حقوق الإنسان في الصين، وتحافظ في الوقت ذاته على علاقات اقتصادية قوية مع الصين، مما يجعلها أكثر توازناً في موقفها مقارنة بأستراليا. ولكن عندما تحين لحظة الحقيقة، فإنها بلا شك سوف تميل إلى تاريخها وتحالفاتها الغربية الوثيقة. كذلك نرى جزر سليمان كطرف فاعل في سلسلة من المعادلات المعقدة، وأداة مهمة في صراعات المستقبل.

وفي ختام هذه الرحلة، نرى الآن أن القيادة العالمية الأمريكية أصبحت موضع تساؤل وشكوك متزايدة، ولربما كانت هذه الحالة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية، وهي أن القوى الصلبة التي كانت تحكم العالم في إطاره المحدد بدأت تخرج عن المدار، وحالة السيولة التي يمر بها العالم حالياً تنذر بالتقلبات، وبمزيد من الصراعات، خاصة وأن التململ الصيني والروسي من النظام العالمي الحالي بدأ يظهر للعلن في صورة تمددات عسكرية وتصريحات متشنجة. كما أن مشاركة قوات كوريا الشمالية في تحالف مع الروس في الحرب الدائرة في أوكرانيا يحمل دلالات مثيرة للقلق، فهي المرة الأولى منذ أكثر من عقدين التي ترسل فيها كوريا الشمالية قوات خارج حدودها.

وعادة ما تكون هذه التحولات بمثابة مقدمة لتسوية استراتيجية كبرى، أو لحرب شاملة تنهي مسيرة الدبلوماسية الناعمة، وتضع النقاط على الحروف، وفقاً للواقع السياسي الجديد. إن العالم يقف الآن على أعتاب تسوية كبرى على غرار معاهدة وستفاليا، التي حمت أوروبا من سنوات طويلة من الدماء والمعاناة، أو حرب عالمية جديدة ترسم حدوداً جديدة للقوى العالمية المتصارعة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة